الكلمة الإفتتاحية لرئيس المجلس السيد عمر عزيمان
بسم الله الرحمان الرحيم
حضرات السيدات والسادة،
يسعدني في البداية أن أرحب بكم في هذا اليوم المبارك من هذا الشهر الكريم، مع متمنياتي لكم جميعا بالصحة والعافية، ولأشغالنا كامل النجاح والتوفيق.
يأتي اجتماعنا هذا ونحن على مشارف نهاية السنة الثانية من ممارستنا لمهامنا ضمن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في تركيبته الجديدة واختصاصاته الموسعة، بعد إعادة تنظيمه ومطابقته لمبادئ باريز.
ويحق لنا أن نعتز بما حققناه خلال هذه المدة من القيام بعمل مؤسس لمسار هذا المجلس وللموقع الذي احتله بين مكونات المشهد المؤسساتي الوطني.
وليس هنا مكان جرد البرامج التي سطرها المجلس، أو تعداد التوصيات والاقتراحات والآراء الاستشارية التي رفعها إلى جلالة الملك، أو التقارير التي أصدرها، أو الندوات التي نظمها. فالمكان الطبيعي لجرد هذه الحصيلة الكمية هو التقرير الخاص بأنشطة المجلس.
ومع ذلك اسمحوا لي أن أتوقف لحظة لإبراز الحصيلة النوعية لما قمنا به جميعا خلال هذه المدة القصيرة من الزمن، والتي لم تكن على الصعيد العالمي مرحلة ازدهار بالنسبة لحقوق الإنسان بسبب آفة الإرهاب والآثار السلبية التي خلفتها محاربته على حقوق الإنسان دوليا.
فقد نجحنا، خلال هذه المدة، في التعمق في التعرف على بعضنا البعض، وتجاوز الأفكار والآراء المسبقة، وفي الإصغاء لبعضنا البعض، وفي العمل والتقدم جماعة، وفي احترام اختلافاتنا وتحويلها إلى مصدر قوة تضع قيم ومبادئ حقوق الإنسان فوق كل اختلاف في المشارب والانتماءات.
وخلال هذه المدة أيضا استطعنا أن نتميز وأن نتموقع كفاعل رئيسي في مجال حقوق الإنسان. كما تمكنا من الإقناع بقبول تميز أسلوبنا، وخصوصية مهمتنا، وضرورة عملنا.
وقد نجحنا، خلال هذه المدة كذلك، في ربط علاقات الثقة والتقدير المتبادلين مع السلطات العمومية في احترام دقيق للمقاربات المستمدة من الموقع الذي يحتله كل منا. كما نجحنا في بناء علاقات قرب وتعاون مع الجمعيات غير الحكومية الوطنية في احترام دقيق أيضا لوظيفة كل منا ومناهجه في العمل.
كما نجحنا في تحسين صورة المجلس الاستشاري لدى المواطنين، مع إدراكنا لحاجتهم الماسة إلى مزيد من التعريف باختصاصاتنا والتمييز بينها وبين اختصاصات المؤسسات المشابهة.
وقد قدمنا، خلال هذه المدة أيضا، بالرغم من الرياح المعاكسة، مساهمة لاجدال فيها لخدمة قضية حقوق الإنسان ببلدنا أدت إلى تقدم ملحوظ في عدة اتجاهات:
ففيما يخص الماضي، من خلال المواصلة المتجددة لمسلسل التسوية غير القضائية لانتهاكات حقوق الإنسان، ورد الاعتبار لضحايا الاختفاء القسري والإعتقال التعسفي، وكذا من خلال المصالحة التي تشكل رافدا أساسيا في مسلسل الانتقال الديمقراطي؛
وفيما يخص الحاضر، من خلال التحذيرات وإثارة الانتباه التي تضمنها التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان برسم سنة 2003 والتقرير الخاص بالأوضاع في السجون؛ وكذا من خلال ردود فعل الحكومة خاصة فيما يتعلق بخروقات حقوق الإنسان المرتبطة بمحاربة الإرهاب؛
وفي اتجاه المستقبل، من خلال الاهتمام الذي نوليه للنهوض بحقوق الإنسان، والجهود التي نبذلها من أجل إعداد برنامج طموح وواعد لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع والنهوض بالقيم الأساسية للديمقراطية.
وبالإضافة إلى ذلك تمكنا من تعزيز واستثمار النتائج الطيبة المحصل عليها على الصعيد الدولي. فقد جددت اللجنة الدولية للتنسيق بين المؤسسات الوطنية لتطوير وحماية حقوق الإنسان ثقتها في المغرب، واختارت المجلس الاستشاري رئيسا لها لولايتين متتابعتين. وحتى بعد انتهاء مدة رئاسته لها، ظل المجلس يحظى باحترام وتقدير وصداقة نظرائه المنخرطين في هذه الشبكة الدولية، كما أصبح يشكل نموذجا يحتذى به من لدن كثير من الدول.
وفي نفس الوقت أيضا حظي المجلس باحترام وتقدير المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي وعدد لا يستهان به من الجمعيات غير الحكومية الدولية.
وأخيرا، وليس آخرا، فقد تمكنا من إبراز هوية مجلسنا وتوضيح الموقع الخاص والمتميز الذي يحتله في المشهد المؤسساتي الوطني باستقلاله عن غيره من المؤسسات، وتميزه عنها. فهو مجلس محدث إلى جانب جلالة الملك لأداء وظيفة استشارية في مجال حقوق الإنسان، ومواكبة الانخراط القوي والصريح لصاحب الجلالة لصالح قضية حقوق الإنسان، وترسيخ دولة القانون، ودعم الانتقال الديمقراطي.
ويشكل جسرا بين الدولة والمجتمع بفضل تركيبته المتعددة، التي تعبر عن مختلف الحساسيات الوطنية، وتعكس انفتاحه على المجتمع. كما يعد مؤسسة وطنية تعمل بفعالية وعمق واستمرارية من أجل النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، وقوة اقتراحية في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان.
حضرات السيدات والسادة،
إذا كنا قد تقدمنا في جميع مجالات اختصاص المجلس الاستشاري، فإن الفضل في ذلك يعود إلى الانخراط القوي لصاحب الجلالة، مؤسس هذا المجلس، لصالح الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان، وإلى الثقة التي أولانا إياها منذ اليوم الذي عيننا فيه أعضاء في رحاب هذا المجلس، وإلى الدعم القوي الذي ما فتئ جلالته يحيط به مجلسنا.
كما يعود الفضل كذلك إلى المسؤولين الحكوميين الذين أدركوا دور وأهمية المجلس الاستشاري ووظيفته النقدية والبناءة في مسيرة المغرب نحو الديمقراطية وفي تشييد دولة القانون.
كما يعود الفضل كذلك إلى مساعدة ودعم المنظمات غير الحكومية الوطنية، وتعاون المؤسسات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية.
كما يعود الفضل كذلك إلى توضيحات وتفاني جميع أعضاء المجلس الاستشاري الذين أدركوا ضرورة الحكمة في البحث عن الحلول التوافقية التي تمكن من التقدم نحو الأمام، فقد توصلنا معا إلى حلول وآراء واقتراحات وتوصيات ما كنا لنتوصل إليها لولا العمل الجماعي، والتعاون البناء، والحوار القائم على الاقتناع والإقناع، والالتزام بجعل قيم ومبادئ حقوق الإنسان فوق كل اختلاف في المشارب والانتماءات.
حضرات السيدات والسادة،
إذا كان من حقنا أن نفتخر – بكل تواضع ودون اعتداد بالنفس – بتلك المنجزات النوعية، فإننا نظل واعين بنواقصنا، مثلما نحن واعون بأهمية وحجم ما ينتظرنا في طريق بناء مجتمع ديمقراطي، وكذا بضرورة البحث عن نفس جديد من أجل السنتين المتبقيتين من ولايتنا.
لذا خصصنا هذه الدورة لفتح أوراش جديدة تضاف لما حققناه من إنجازات، ولتدارس موضوعات في غاية الأهمية أضحت جاهزة للنقاش والحسم، علما أنها تشترك فيما بينها من حيث كونها كلها قضايا مصيرية ترهن المستقبل.
أولها: التقرير العام عن حالة حقوق الإنسان، فنحن نستحضر الظروف التي تم فيها إعداد تقريرنا السنوي الأول، وردود الفعل التي أثارها داخليا وخارجيا، والمناقشات المستفيضة التي خصه بها المجلس بحثا عن مقاربته الخاصة ومنهجيته المتميزة. واعتبارا لكل ذلك، تم عقد عدة اجتماعات، سواء على مستوى لجنة التقرير السنوي أو على مستوى لجنة التنسيق، لتدارس هذا الملف من جميع أبعاده.
ونقترح عليكم اليوم ما انتهينا إليه وهو صياغة مقترح مقاربة تمكن من تجاوز عيوب ونواقص التقرير الأول، وتقوي من فائدة التقرير السنوي، وتنخرط ضمن منهجية أكثر دلالة وأكثر ملاءمة لمتطلبات المرحلة التاريخية التي نعيشها.
وهذا المقترح هو الذي نعرضه عليكم اليوم لمناقشته والحسم فيه حتى تتمكن اللجنة من أن تعد مشروع التقرير في أقرب الآجال.
ثانيها: النهوض بثقافة حقوق الإنسان، لقد تقدمنا كذلك في هذا المجال، وسيشرع، بحول الله، في بث البرنامج الإذاعي والتلفزي للإعلام والتحسيس والتوعية على أمواج الإذاعة وشاشات التلفزة قبل نهاية السنة. كما تم الانتهاء من الدراسة التقييمية للتجربة المغربية في مجال التربية على حقوق الإنسان.
وبعد هذا التقييم الجماعي والدقيق لهذه التجربة، نتطلع، بتعاون مع شركائنا الحكوميين وغير الحكوميين، إلى إعداد برنامج وطني للنهوض بثقافة حقوق الإنسان لتأطير العشرية الثانية، وهذا ما سنناقشه اليوم أيضا.
ومن جهة أخرى، تم مؤخرا تدعيم وسائل عمل المجلس، بفضل القرار الملكي السامي القاضي بالارتقاء بمركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان بإلحاقه بالمجلس.
وقد عبر المجلس، في اجتماعه السابق، عن اعتزازه بهذا القرار السامي، لأن في هذا الإلحاق دعم وتقوية وتنويع لأعمال المجلس لاسيما في مجال النهوض بثقافة حقوق الإنسان.
وتنفيذا لهذا القرار الملكي تم اتخاذ جميع الإجراءات والإتصالات مع السلطات الحكومية المعنية، ومع شركاء المركز، قصد تمكين هذا الأخير من مواصلة عمله في أحسن الظروف بما يضمن استقلاله وإشعاعه في أعمال النشر والتوثيق في مجال حقوق الإنسان، في إطار تقوية ارتباطه العضوي بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
وتتويجا لما تم اتخاذه من إجراءات إدارية نعرض عليكم مجموعة من المقترحات قصد ضمان التنفيذ الكامل للقرار الملكي، وإقامة الروابط الضرورية بين المجلس والمركز.
ثالثها: قضية النهوض بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، فمع التزامنا بالمفهوم الشامل لحقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة، فقد تقدمنا أيضا في التفكير حول قضية النهوض بهذه الحقوق تقديرا لما تكتسيه من أهمية بالغة “ باعتبارها جوهر صون كرامة الإنسان” (كما جاء في بيان الأسباب الموجبة للظهير المنظم للمجلس).
واعتبارا لحجم الخصاص وتعقيد القضايا في هذا المجال، ونظرا للحاجة إلى مقاربة شمولية مندمجة ومسؤولة بشأن هذه الحقوق، نقترح عليكم أن نتبع منهجية متأنية تعتمد على التشاور وتوضيح الرؤى قبل الشروع في إنجاز أي برنامج عمل في الموضوع. فيجب أن نبدأ إذن بالبحث عن المقاربة أو المقاربات المناسبة بمساعدة خبراء مغاربة وأجانب، وأن نجعل هدفنا هو جعل هذه الحقوق أكثر فاعلية، حتى نتمكن من المساهمة بأفكارنا وآرائنا واقتراحاتنا في تحقيق التقدم الإقتصادي والاجتماعي لصالح بلدنا.
رابعها: قضية ملائمة القوانين الجنائية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، فهي وإن كانت غير مدرجة في جدول أعمال هذا الاجتماع، فإنها تعتبر من بين أهم التحديات المطروحة علينا في الأمد القريب.
وأريد هنا أن نعبر عن امتناننا لصاحب الجلالة الذي تفضل بالمصادقة على الرأي الاستشاري الذي رفعناه إلى جلالته في الاجتماع السابق للمجلس في موضوع الحاجة إلى مراجعة القانون الجنائي، ومحاربة كل أشكال العنف والعنصرية والكراهية.
وبمقتضاها أصبحنا ملزمين بالمساهمة في إعداد سياسة جنائية تراعي حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وكما هي مسطرة في المواثيق التي صادقت عليها المملكة المغربية أو انضمت إليها، سياسة جنائية تستجيب لمختلف التطورات المجتمعية، وتواكب المستجدات القانونية التي حققتها بلادنا.
لذا، فنحن مطالبون بالمساهمة، بجدية ومسؤولية، من الموقع الذي هو موقعنا، في تنظيم الندوة الوطنية حول “السياسة الجنائية” بمبادرة من وزارة العدل، مثلما سنكون مطالبين بتوجيه النظر الحقوقي على مشاريع القوانين التي سيتم إعدادها في هذا المجال.
خامسها: قضية إعداد ميثاق وطني لحقوق المواطن وواجباته، وهي موضوع التكليف الذي شرفنا به صاحب الجلالة في خطاب العرش لسنة 2003. وهي أيضا من بين التحديات الرئيسية التي تواجهنا على الأمد المتوسط، لكننا لم ندرجها في جدول الأعمال، لأن المستوى الذي وصلنا إليه في التفكير بشأنها لا يسمح بعد بالنقاش العلني حولها.
وأعدكم أني لن أدخر جهدا في أن نجعل من هذه القضية النقطة الرئيسية في جدول أعمال اجتماعنا المقبل بحول الله.
حضرات السيدات والسادة،
ها أنتم تدركون الآن الأهمية الكبيرة للقضايا التي سنناقشها خلال اجتماعنا هذا، فهي تفتح أمامنا آفاقا للتفكير والعمل، وسنكتشف من خلالها عوالم جديدة وإشكاليات غير معهودة، بل ستمكننا من تقديم اجتهادات ومساهمات في خدمة قضية حقوق الإنسان وكرامة الشخصية الإنسانية.
وبالرغم من ضخامة هذه التحديات، فهي لن تخيفنا، لأننا قادرون على رفعها طالما نحن مستمرون في تقوية استقلالنا، والاعتناء بمصداقيتنا، والتحلي بالحزم مهما كانت الظروف، في مواجهة خروقات حقوق الإنسان.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على رفع هذه التحديات، وأن يوفقنا لما فيه خير ومنفعة بلدنا. « وإذا عزمت فتوكل على الله» صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس المجلس
عمر عزيمان