المجلس رافعة أساسية في مجال تطوير وحماية حقوق الإنسان في المغرب 1990-2008
يحظى المغرب في ميدان حقوق الإنسان ومجال ترسيخ الديمقراطية ودولة الحق والقانون بمكانة متميزة، وذلك بفضل المجهودات المبذولة من طرف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان منذ تأسيسه سنة 1990، وبعمله المتواصل كآداة استشارية إلى جانب جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه وجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره.
وتأسيسا للرغبة الملكية في جعل المغرب دولة عصرية ومحبة للسلم في الداخل والخارج ومتشبثة باحترام حقوق الإنسان، جاء إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بظهير 20 أبريل 1990، الذي يشير إلى هذا الاتجاه في مجال بناء المغرب الحداثي الديمقراطي المتفتح. ولم يمر وقت طويل حتى جاء دستور 1992 ناصا في ديباجته على أن المملكة المغربية : ʼتتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياʽ.
وقد سار جلالة الملك محمد السادس منذ ارتقائه العرش العلوي المجيد على نفس هذا المنوال، ونقتطف من خطاب جلالته الموجه إلى أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عند استقبالهم بالقصر الملكي بالرباط يوم 9 دجنبر 2000 قوله : ʼواعتبارا لكون صيانة حقوق الإنسان وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وضمان ممارستها تعد أمانة دستورية من صميم مهامنا السامية، فقد آلينا على أنفسنا مواصلة العمل على النهوض بحقوق الإنسان وتعزيز كرامة المواطن ضمن مفهوم شمولي لحقوق الإنسان باعتبارها رافعة قوية للتنمية مترابطة في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافيةʽ.
ومن هذا المنظور، يشكل إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، حدثا بارزا في مسيرة بناء دولة الحق والديمقراطية وسيادة القانون واحترام الحقوق والحريات والذي اختار المغرب السير فيه بثبات وإصرار، ولبنة أسياسية من لبنات هذا البناء، وخصوصا بالنظر إلى ما أسند إليه من اختصاصات وما عهد به إليه من مهام وما خص به من تشكيل قائم على التمثيلية الموسعة والنزاهة والجدارة.
وإذا كان المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان قد شكل، في حينه، إضافة نوعية وأساسية، تندرج في سياق سياسة الانفتاح التي دشنها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، والمجسدة على وجه الخصوص في الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين والعفو عن المنفيين والكشف عن مصير عدد من المختفين وميلاد مؤسسات تعنى بحقوق الإنسان، وتعزز دينامية النهوض الشامل بحقوق الإنسان وحمايتها والتي انخرطت فيها البلاد بفضل الإرادة الملكية الراسخة والثوابت الدستورية في مجال حقوق الإنسان والمكانة التي أصبحت تحظى بها المرجعية الدولية لحقوق الإنسان في بلادنا وحركية المجتمع المدني وتنامي دوره في هذا الباب والإدراك المتنامي لضرورة تدعيم حقوق الإنسان وتنميتها وتقوية أدوات حمايتها وآليات صونها واحترامها ورصد انتهاكاتها، فإن مساره سوف يتعزز بأدوار أساسية أنيطت به :
ويتجلى الدور الأول في إحداث هيئة التحكيم المستقلة لتعويض الأشخاص أو ذوي حقوقهم ممن تعرضوا للاختفاء أو الاعتقال التعسفي، وذلك بأمر من جلالة الملك محمد السادس صادر في 16 غشت 1999، أي بعد أيام قليلة من اعتلاء جلالته العرش العلوي، وقد عملت هذه الهيئة خلال أزيد من أربع سنوات على إعداد تصور واضح لمجال الاختفاء القسري بالمغرب وطرق تعويضه وإنصاف ضحاياه وكذا تعويض الأشخاص الذين تعرضوا للاعتقال التعسفي أو ذوي حقوقهم عند وفاتهم. كما وضعت قواعد متطورة لتعويض هذا الضرر من أهمها المساواة بين الجنسين واعتبار مدة الاعتقال بالسجون تابعة لمدة الحراسة النظرية المتسمة بالتعسف.
ويتجلى الدور الثاني في قرار جلالة الملك محمد السادس المعلن عنه في خطاب العرش لسنة 2001 والقاضي بإعادة النظر في الظهير الشريف المؤسس للمجلس والذي أفضى إلى صدور الظهير الشريف وقم 1.00.350 بتاريخ 15 محرم 1422 الموافق لعاشر أبريل 2001 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي جاء بمستجدات هامة سواء على مستوى تنظيم المجلس وسيره أو على مستوى اختصاصاته حيث أسند إليه بصفة خاصة صلاحية إعادة تقرير سنوي يتضمن تقييما موضوعيا ودقيقا عن حالة حقوق الإنسان في المغرب ويعرض حصيلة عمل المجلس وما يستشرفه من آفاق عمل على المدى الطويل وما يسطره من برامج عمل على المديين القصير والمتوسط، كما خول له إمكانية إصدار تقارير موضوعاتية وتقارير مالية سنوية إلى غير ذلك من الاختصاصات الموسعة المسندة إليه.
وتجسيدا لهذا المنظور الجديد عين جلالة الملك محمد السادس يوم 10 دجنبر 2002 أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان تعيينا يأخذ بعين الاعتبار مسارهم وإخلاصهم ونزاهتهم وتجاربهم ومؤهلاتهم وتضحياتهم، وكذا مساهمتهم الشخصية في مجال حقوق الإنسان كما ورد في الخطاب الذي ألقاه السيد رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمناسبة الاجتماع السابع عشر للمجلس والمنعقد بالرباط خلال شهر مارس من سنة 2003.
ويتجلى الدور الثالث في إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة بمقتضى الظهير المؤسس لها والظهير الصادر بنشر نظامها الداخلي، هذه الهيئة التي تعتبر أول هيئة للإنصاف والمصالحة في العالم العربي والإسلامي والتي عدت بحق بمثابة هيئة للحقيقة والمصالحة، وقد عملت هذه الهيئة خلال ثلاثة وعشرين شهرا منذ تنصيبها في 7 يناير 2004 إلى 30 نونبر 2005، على دراسة سبل تصفية ماضي الانتهاكات الجسيمة بالمغرب وتعويض الضحايا أو ذوي حقوقهم وأصدرت توصيات هامة في مجال تخليق الحياة العامة بالمغرب ودمقرطة أجهزته الحكومية والسياسية، وترتيب الحكامة الأمنية وتحديث القضاء ما يضمن عدم تكرار الانتهاكات التي عرفها المغرب في الماضي.
وهكذا لم يذخر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان جهدا في سبيل الاضطلاع بالمهام المسندة إليه وإغنائها والاجتهاد في نطاقها وإنجاز عمل مؤسس ومجدد ومتجدد، بما يضمن تقوية الآليات القانونية اللازمة لصون ما تحقق من مكاسب ديمقراطية وترسيخها وتدعيم المجتمع المدني وتوفير شروط الاحترام الكامل لمنظومة حقوق وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية ضمن نطاق ما تتيحه الديمقراطية ودولة القانون من وسائل وإمكانيات.
وبفضل هذا العمل الدؤوب والطويل النفس، استطاع المجلس أن يحتل المكانة التي يستحقها بين باقي المؤسسات باعتباره مجلسا استشاريا يعمل بجانب جلالة الملك، ومؤسسة وطنية لتطوير وحماية حقوق الإنسان مستقلة عن الحكومة وعن البرلمان وعن السلطة القضائية وبوصفه فضاء للتفكير وقوة للاقتراح في كل ما يتصل بحقوق الإنسان.
كما استطاع أن يعزز، على الصعيد الدولي، مكانته ومكانة المغرب في مجال حقوق الإنسان. وهكذا فقد حظي بشرف رئاسة اللجنة الدولية للتنسيق بين المؤسسات الوطنية لتطوير حقوق الإنسان وحمايتها وتجديد هذه الرئاسة والمشاركة الفعالة في شهر أبريل 2003 في الدورة السنوية للجنة المذكورة والتي جددت الثقة في رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وأعادت انتخابه على رأس هذا التجمع الدولي الهام والمساهمة الناجعة في المائدة المستديرة التي نظمتها، خلال يومي 10 و 11 دجنبر 2003 بجنيف، المندوبية السامية لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة احتفاء بالذكرى العاشرة لإعلان مبادئ باريس بشأن المؤسسات الوطنية ودورها في النهوض بحقوق الإنسان.
وقد سجل خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك بتاريخ 30 يوليوز 2006 بكامل الفخر والاعتزاز أن تشبث المغرب الصادق بحقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، والمكاسب الكبيرة التي حققها في هذا المجال، قد حظيت بالاعتراف الدولي، من خلال انتخاب بلدنا في مجلس حقوق الإنسان الجديد، التابع للأمم المتحدة، واختياره نائبا لرئاسة هذا المجلس، باسم القارة الإفريقية.
وتأكيدا للدور البارز والحيوي الذي يضطلع به المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في مجال النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، أبى صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلا أن يسند إليه مهاما متجددة، وهكذا فقد عهد إليه، بمقتضى الخطاب الملكي السامي الملقى بتاريخ 6 يناير 2006 بمناسبة انتهاء مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة وتقديم التقرير المنجز حول خمسين سنة من الاستقلال، بالسهر على متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف وتفعيلها، كما عهد إليه مؤخرا، "وهو المؤسسة الوطنية التعددية والمستقلة، التي جعلنا ضمن مهامها"، يقول جلالة الملك، ""الدفاع عن قضايا المغاربة بالخارج"، بإجراء المشاورات الواسعة، مع كل المعنيين، لإبداء رأي استشاري بخصوص إحداث المجلس الجديد بكيفية تجمع بين الكفاءة والتمثيلية، والمصادقية والنجاعة.
واستلهاما للخطب والتوجيهات الملكية السامية وللتقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة واستئناسا بالتقرير المنجز حول خمسين سنة من الاستقلال وبمختلف التقارير والدراسات المنجزة حول حقوق الإنسان في البلاد والنهوض بها وحمايتها، أخذ المجلس على عاتقه النهوض بثقافة حقوق الإنسان ووضع خطة عمل وطنية لها وتنميتها باعتبارها دعامة للديمقراطية والحداثة وإعداد مشروع ميثاق وطني للمواطنة يحدد حقوق المواطن وواجباته ويضع أسس المواطنة الكاملة والمسؤولة والفاعلة والكريمة وعناصرها وإعداد تقييم نقدي للتشريع الجنائي من زاوية قدرته على محاربة كل أشكال العنصرية والكراهية والعنف والسهر على ملاءمة القوانين الوطنية مع المعايير الدولية في مجال حقوق الإنسان والمساهمة في تفعيل مقتضيات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها صاحب الجلالة بتركيز الجهود على توطيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إطار متين من التشاور والشراكة مع مختلف الفاعلين من قطاعات حكومية ومجتمع مدني وخبراء من الجامعة وغيرها وشركاء دوليين.
وفي هذا المجال عمد المجلس إلى توقيع عدة اتفاقيات شراكة مع مختلف الوزارات المغربية المعنية كوزارة التربية الوطنية ووزارة الداخلية وبعض المؤسسات الوطنية الأخرى المعنية بالتشغيل والتكوين، كما عمد إلى عقد اتفاقيات شراكة مع العديد من الجمعيات الفاعلة في المجتمع المدني والتي تعمل في مجال تطوير وحماية حقوق الإنسان أو تلك التي تعمل في مجال التنمية البشرية، وخاصة إحداث تنسيقيات جمعوية غرضها الأساسي السهر على تنمية المناطق المتضررة من انتهاكات الماضي سياسيا واجتماعيا.
وسنعمل بحول الله من خلال مقالات متواصلة على بسط الأضواء على الأعمال الكبرى التي قام بها المجلس الاستشاري منذ تأسيسه إلى الآن، وذلك حرصا على التعريف بالمجلس ومنجزاته من جهة وتمكينا للمهتمين من تتبع أعماله من جهة أخرى.
بقلم مصطفى الريسوني، عضو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان